امير العشاقـ مشرف قسم الباراسيكولوجي
عدد المساهمات : 170 مستوى التقييم : 498 تاريخ الميلاد : 24/06/1989 تاريخ التسجيل : 25/04/2010 العمر : 35 الاقامة : السراب المهنة : طالب جامعي المزاج : لا باس
| موضوع: نقد الشعر الشعبي العراقي 2010-04-30, 4:35 pm | |
| نقد الشعر الشعبي العراقي الجزء الأول
لم يحظَ الشعر الشعبي العراقي على طول مراحله وتعدد فنونه وكثرته على نقد منهجي يحاول سبر أغواره والوقوف على إبداع شعرائه وإظهار ما له وما عليه، وعلى كثرة ما ألف في الإبوذية وفي غيرها من فنون الشعر الشعبي من كتب جمع مؤلفوها أبياتها بجهد وواصلوا سعيهم لرفد القارئ العراقي بتراثه وإطلاعه على تاريخه الأدبي وما خلفه له أجداده من آداب يفخر بها ويعتز بمؤلفيها، إلا ان الكثير منهم لم يتعد حدود النقد بمدح هذه الأبيات والإشادة بشعرائها.
فلو تصفحت أي كتاب في الابوذية أو غيرها من الأسواق لن تجد كتابا يقول لك أن وزن هذا البيت ليس صحيحا او يناقش جناساته ومدى صحتها، وما أتى به الشاعر من كلمات في حشو أبياته أو يتطرق إلى معانيه الدقيقة إلا ما ندر. ويكاد يكون ما قام به الباحث الأستاذ عامر رشيد السامرائي في كتابه مباحث في الأدب الشعبي أول دراسة شاملة لمفهوم الأدب الشعبي العراقي وأساليب بنائه مركزا على بلاغة الأسلوب واختيار الكلمات ووضوح المعاني وبيان الفكرة، وأوضح أن على الشاعر ان يَجدَّ في اختيار ألفاظه ويعتني في وضع معانيه، حيث ميز بين مصطلح الشعبي والعامي وانتقد الشعراء الذين يستخدمون عبارات (سَوْقية دارجة) في أبياتهم أو قصائدهم، وقال في مقدمة بحثه:
إن دراسة الشعر الشعبي يجب ان لا تقتصر على تبيان أنواعه وأوزانه وتثبيت النصوص فحسب، بل تتطلب بحثا مسهبا وعلميا لا يغفل الدقائق اللفظية أو المعنوية. وأكد على ان الأدب هو التعبير بأسلوب رفيع يراعى فيه انتقاء الألفاظ والتراكيب واختيارها. وهذا ما ينبغي تطبيقه على الأدب الشعبي، فكل امرئ معرض للانفعال وهناك كثيرون يقدرون على إيجاد معان جيدة يغفل عنها آخرون ولكنهم يفشلون في التعبير عنها فالتعبير المطلق عن المعاني لا يدل على ان ذلك هو الأدب، بل يشترط ان يكون التعبير جيدا ومختارا. ونحن إذا اعتبرنا كل تعبير باللهجة العامية هو أدب شعبي أدى ذلك بنا إلى اعتبار الكلام السائر والذي يتبادله الناس في الأسواق والمقاهي وفي البيوت أدبا شعبيا. إن الأدب الشعبي على سذاجته لا يخلو من الاقتباس الفنية والموهبة الحساسة وان الشاعر يستعمل خلاصة الأفكار العامية ويختار الألفاظ الموحية أو ذات الجرس الجميل او المعنى الدقيق ويسلك فيها سلوكا هو اقرب إلى السلوك الفني.
ويكمل السامرائي حديثه فيذكر ان الشيخ مزهر آل فرعون وهو من الرجال الأفاضل الذين يعنون بالأدب الشعبي كتب إليه في عام 1968م. يقول : اعلم أيها الأخ الأديب أن للشعر الشعبي قواعد وأصول تختلف كثيرا عما تسمعونه في الإذاعة العراقية من بعض الشعراء المحترفين أو ما هو مدوَّن في بعض الكتب المطبوعة حديثا أو ما تسمعون من بعض ألحفظه، وإنما للشعر الشعبي قواعد وأوزان وبحور يرتبط بها كل منظوم على شكل ووزن وقاعدة مضبوطة. ثم يقول أن الشعر الشعبي يجب أن يكون متماسكا أو متناسبا وإلا يكون متناثرا ولا يقصد منه ناظمه إلا (الترهيم) وربط البعض بالبعض بلا تناسب ولا اتزان كأمثال بعض الشعراء من هذا النوع الذين طبعت لهم دواوين وهي لو تصفحتها لوجدتها جُلَّها إذا لم أقُل كلها لا تمت إلى الشعر الشعبي بصلة.
ويقول الشيخ جلال الحنفي في تقديمه للكتاب: وكان المضنون إلى يوم الناس هذا أن العامي لا يُخطئ لأنه لا يزال له حق وضع الكَلِم والألفاظ وتعيين المعاني على نحو ما يستقيم على لسانه ويطمئن إليه سمعه. ولكن الأستاذ المؤلف شاء أن يضع حدا لهذه المقولة فسجل على الشاعر العامي ما سجل من أخطاء ومآخذ.
ويعلق الشيخ جلال الحنفي على أسلوب الأدب الشعبي فيقول:
(وفي دراسة الأدب الشعبي العامي واسكناه حقائقه واستكشاف دواخله وبواطنه ما يفيد فائدة ظاهرة في معرفة الأواصر التي تربط بينه وبين الأدب الفصيح ومن هنا سيكون في متناول أهل هذه الصناعة ان يرتفعوا بمتأدبة العامة وشعرائهم إلى مستوى أعلى من مستواهم في الأداء والبيان بحيث يقربهم إلى المنطق الفصيح واللسان المبين).
ويمكننا تحديد المبادئ العامة العريضة التي يمكن إتباعها في نقد الشعر الشعبي حيث يتبين أن نقد الشعر الشعبي شبيه ومطابق لنقد الشعر الفصيح، فالاثنان يركزان على اختيار العبارات الصحيحة في أماكنها وعلى ذكاء الشاعر في طرح أفكاره وارتباط معانيه وبلاغته في التأثير على سامعيه وفي ابتعاده عن الكلمات السوقية المبتذلة. كما عليه الالتزام بقواعد اللهجة العامية مثلما يلتزم شعراء الفصيح بقواعد اللغة العربية الفصيحة، مع فارق الفسحة الواسعة من عدم التزام قواعد النحو طبعا لدى الشعراء العاميين وحريتهم في استعمال الكلمات غير العربية أو المعرَّبة من لغات دول مجاورة بحسب الحدود الجغرافية وكذلك خصوصيات المناطق الشعبية وتعدد لهجاتها واستخدام الحروف الأعجمية كثيرا في الشعر الشعبي مما لا يعيبه باعتبار ان الشاعر يستخدم موارده المتاحة من المفردات مهما كان نوعها واصلها طالما كانت مستخدمة في اللهجة المحلية الدارجة.
وبرغم اختلاف اللهجة العامية عن اللغة الفصحى في ما مر ذكره وعدم ظهور علامات الإعراب عليها كفرق واضح بين الاثنتين، إلا أنهما مكونتان من جمل والجمل مكونة بدورها من مفردات. وعلينا أن ندرك أن الغاية من الجملة في اللغة واللهجة هي إيصال المعنى المفهوم والمفيد إلى المتلقي. وفي هذا الجانب لا يوجد اختلاف بين العامية والفصحى، مثلما لا يوجد اختلاف بين لغات الأمم والشعوب رغم اختلاف ألسنتهم وقواعد لغاتهم.
ولو لم يكن للشعر الشعبي شروطه وقواعده التي يسير عليها ويلتزم بها الشعراء لما ميز النقاد والعارفون بين المبدعين من فطاحل الشعراء وبين غيرهم ممن لا يحسبون على الأدب والشعر، ولضاعت علينا طرق الدراسة والتوثيق وحتى التمتع بطعم الأدب الشعبي. إن لكل شيء أصول وضوابط يسير عليها وكلما سَمَت العلوم والآداب سمت معها قوانينها وأساليب تطبيقها شيئا فشيئا، والأدب الشعبي أحوج ما يكون إلى تلك الضوابط التي تجعله أهلا للرسوخ والاستمرار طالما كان نابعا من عمق المشاعر الشعبية الإنسانية ومخاطبا لها بأسلوب مرهف ورفيع. ولو أن الشعراء لم يلتفتوا إلى الرقي بشعرهم وتحسينه لما حصلنا اليوم على تلك الجواهر الثمينة من عمق بحار الأدب الشعبي والتي أصبحت أمثلة تحتذى في ما يجب أن يكون عليه الشعر الشعبي.
إن تحرر اللهجة العامية من قواعد النحو خصوصا والصرف عموما لا يعطي الحق للشعراء في صياغة أبياتهم كما يشاءون دون الرجوع إلى قواعد اللهجة العامية التي هي في الأساس متحدرة من أمها الفصحى في كل شيء تقريبا. فهناك الاسم المفرد والمثنى والجمع بأنواعه: المذكر السالم والمؤنث السالم وجمع التكسير وجمع الجموع وهناك المؤنث والمذكر.
ولا تختلف أدوات الاستفهام عن مثيلاتها الفصيحة حتى في استخدامها للتعجب أو الاستنكار أو الترجي، ولا الجمل الشرطية في وجوب وجود جملة الشرط وجوابه ولا أسماء الإشارة بنوعيها للبعيد والقريب والمفرد والجمع تأنيثا وتذكيرا، وكذلك الضمائر الظاهرة والمستترة. أما الأفعال فهي كما في الفصحى ماض ومضارع وأمر، ولابد من مطابقة الفاعل لفعله تأنيثا وتذكيرا افردا وجمعا، أما الحروف بأجمعها كحروف الجر والقسم ففيها اختلاف من ناحية استخدام الواو كحرف عطف وحيد ولا يستخدم الفاء ولا ثُم في اللهجة العامية.
إلا ان شعراء الإبوذية والموال بشكل خاص يستخدمون كلمات فصيحة في أشعارهم ويستعملون فيها هذه الأحرف. وهذا ينطبق أيضا على حرف التشبيه الكاف الذي لا يستخدم في العامية ولا حرف السين في الاستقبال إلا ما ندر في الشعر. وفي اللهجة العامية تتبع الصفة الموصوف مثل آختها في الفصحى تماما كما تأتي الجمل الاسمية والفعلية حالا وصفة لأسماء ذكرت في الجملة، ومع كل هذا فان الشعراء يعمدون إلى تجميل أبياتهم بالكلمات الفصيحة بين الحين والآخر اضطرارا كما في الجناس او اختيارا كما في مجاراة أبيات الفصيح او ذكر الأمثال والحكم العربية الشهيرة بدون تشويه.
وتستخدم طرق البديع والبيان في كليهما بنفس الطريقة من تشبيه وكناية واستعارة وتقديم وتأخير وغيرها من الأساليب. والأستاذ خليل رشيد في استعراضه لأغراض الشعر الشعبي في كتابه الأدب الشعبي يؤشر أمورا أخرى تتعلق ببراعة الشعراء وبلاغتهم التي تفوق بلاغة الفصحاء حين يورد أمثلة يقول عنها إنها (يعجز أمامها فطاحل الفصيح) فيقول إنها تنطلق بطبيعة جذلى مرحة نحو الحب والحياة بلا تكلف وبدون عناء كما يتكلفه الشعر الفصيح، وقد يعجز عنه هذا الأخير عن التعبير الصادق لان المعاني لا تنقاد إليه كما تنقاد للأدب الشعبي بسلاسة وطواعية. ويضيف ان الأدب الشعبي إذا ما أراد الوصف تخاذل أمامه ابن الرومي وأبو تمام فيأتي آية في الإبداع والتصوير يعجز عن إتيانه قادة الشعر وفرسان الأدب.
إلا أننا نجد كتبا تتناول الأدب الشعبي بطرق أخرى القصد منها جمعه وشرحه وضرب أمثلة على براعة الشعراء فيه بدون تحليل، فتكتفي بذكر الإعجاب بذلك البيت وبغيره، وقد يستشهد مؤلفوها أو المقدمون لها بأبيات فتأتي استشهاد اتهم غير دقيقة أو غير موفقة بسبب غياب النظرة النقدية التحليلية للأبيات.
وإذ استعرض بعضا من هذه الأمثلة فاني أكن لهم القدر الكبير من الود والاحترام والتقدير لما بذلوه في أعمالهم الكبيرة وخدمتهم الجليلة للأدب الشعبي وأعرف حق المعرفة من انه لا يسلم تأليف من نسيان أو إهمال أو أخطاء وهي أمور متجذرة في الطبيعة البشرية.
كما أن انتقاد مؤلف أو شاعر لا يعني الانتقاص من شخصه أو مقامه أو أدبه إذ أن انتقاد الشعر شيء عام. ومهما بلغ الشاعر من منزلة كبيرة في الأدب فلابد من وجود بعض المثالب والهنات هنا وهناك وهو ما لم يسلم منه كبار شعراء العربية وفطاحلها الأوائل. إن القصد هو الإيضاح وضرب الأمثلة خدمة للشعر والشعراء ولكل رأيه وتعدد الآراء يغني البحث ويفيد الجميع.
يليه الجزء الثاني بإذن الله تعالى:
يورد المؤلفون أمثلة من أبيات الإبوذية وغيرها للاستشهاد بها في موضوع معين مثل أغراض الشعر الشعبي أو تأييدا لبلاغة شاعر معين او توضيحا لأحد أوزان الشعر وما إلى ذلك من أمور. ويعتمد ذلك على حنكة الكاتب وتمكنه من أبواب النقد وفهمه للجناسات وكذلك لعلم العروض وغيره مما يشكل ثوابتا يقيس بها الكاتب مدى انطباق مثله على ما أراد إيضاحه للقراء. وقد يحدث ان يتوهم الكاتب شيئا أو يحلل موضوعا وفق ما يراه بعيدا عن أدوات قياسه وربما نتيجة سهو أو التباس او خطأ غير مقصود. وسوف استعرض بعضا من ذلك في هذا الباب لغرض التوضيح وإبداء الرأي معززا ذلك بأمثلة توضيحية. وكمثال على ذلك نجد السيد جاسم محمد الشواي في كتابه أنماط تراثية شعبية فلكلورية يقول ما يلي: (ومن منا لا يعرف مكانة الإبوذية في نفوس شعبنا العربي فقد زامنت كافة أجياله من العشرينات وحتى وقتنا الحاضر الذي نرى المطرب يبدأ حفله بالإبوذية فاستولت على أغلب أنواع الأغاني تقريبا لذا نجد شاعرنا المقاتل يتحمس ليقول:
هِضِيَمَه الْرَجِل لُو يِطْلُب وَشَالات ألدنيا اليِمْنِتِي گَصَّت وَشَالات الْعِيْس إتْمُوْت عَطْشَانَه وَشَالات إبْظَهَرْهَا الْمَاي وِالْخُبْزَه سِوِيَّه
بهذا الاتجاه وبهذه الانحدارة الشعبية نحو ما كان يردده أجدادنا القدامى من رجال ثورةِ العشرين وثورات الشعوب الأخرى كان اتجاه شبابنا يغترف هذا المعين الرقراق فيخلد به تراثا عراقيا خالصا التصق به منذ أن كان وما زال الذائد عن حياض الرافدين).
ونلاحظ هنا أن استقراء المؤلف للنص الشعري الذي ساقه بين المقدمة التي يعتبرها مسوغة لعرضه أمام القراء والخاتمة التي حلَّل بها أسباب اختياره لهذا البيت وإبداع شاعره كما يراه، قد جاء غير موفق. فماذا قال هذا الشاعر المقاتل في بيته الذي أورده المؤلف؟
إن الشطر الأول يتحدث عن حكمة تقول ان الرجل يُعاب إذا طلب (وِشَالاتْ) وهي جمع وِشَالَة أي ما بقي في الإناء أو غيره من سائل أو طعام وهو ما يتصدق به الأغنياء على الفقراء أو يُرمى كفضلات. ورغم ما يعانيه الشاعر من مصائب الحياة التي وضعته في حال لا يحسده عليها أحد كما جاء في شطره الثاني، وهو أن الدنيا قد قطعت يمينَه مجازا فتركتْه عاجزا أن يعمل بكلتي يديه، وهو يصف ضيق ذات يده وقلة حيلته في كسب الرزق أو ربما حتى الضعف في الدفاع عن الحقوق وغيرها مما يستوجب العمل والقتال. والشاعر يرفض (الوشالات) رغم وضعه هذا. ويقصد انه ذو نفس أبية ترفض أن تقبل عطف الآخرين عليه وهو يصف إبائه وعزة نفسه. ثم يعرج الشاعر على مثل آخر يأخذه من الشعر الفصيح وهو من قول الشاعر أديب إسحاق: كَالعيِسِ في الصَّحْراءِ يَقْتُلُهَا الظمأ وَالماءُ فَوْقَ ظُهُوِرَها مَحْمُوْلُ
فيقول (العيس أتموت عَطْشَانة وَشَالات) وهو يُشَبِّه وضعه بوضع العيس في الصحراء التي تحمل الماء ولا تشرب منه. فرغم انه بيد جَذّاء لكنه يرفض الوشالات، ويعطي ما يملك لغيره ويحرم نفسه منه كما تفعل العيس التي يقتلها الظمأ في الصحراء وهي تحمل الماء لغيرها.
وقبل ان نكمل البيت نقول ماذا قدَّم لنا هذا (المقاتل البطل) في حربه التي يخوضُها ضد أعداء الوطن؟ هل هو الشكوى من الحياة، أو وصف يده المقطوعة. كما انه لم يذكر كلمة واحدة تتعلق بالقتال أو الذود عن الوطن في سوح الجهاد، وهل يرتجز الأبطال بمثل هذا في سوح القتال؟ لا بل يقولون كما قال الزعيم مبدر آل فرعون في ثورة العشرين:
مَا تِنْدَاس ثَايَتْنَا وَحَدنَا المُبْرَد مَا أكَل بِيْنَا وَحَدْنَا نِشِگ إشْگُوْگ وِنْخَيِّط وَحَدنَا شَگ مَا يتخبط شَگَّيْنَا
أو مثل ما قال الشاعر:
نُفوُس الْنَا عَلَى الْعَلْيَا تَجَدْنَا إوْنَار الْحَرُب لُو شَبَّت تَجَدْنَا يَضَيْف إجْبِل عَلَى حَيْنَا تَجَدْنَا إلضِّيُوْف إحْنَا وِنِت رَبَّ الْحِنِيَّه
وأين جاسم الشواي من قول الشاعرة نازي بنت حاچم من عشيرة الظوالم وقد استقبلت شعلان أبا الچون ومعه سبعون بطلا اقتحموا المعركة في ثورة العشرين وأمطروا العدوَّ نارا وسيطروا على جسر السوير فقالت: شَعْلان إجَاهَا إو صِحِت شُوْبَاش خَلَّه الْرُّمَيْثَه إمْجَضِّعَه الْشَّاش إلْعَج غِطَاهَا وِالْثَّرَى إفْرَاش گَرْگَه إو سَيْل إو بَاجِي لاوْبَاش لا هَاب مِن مَدْفَع إو رَشَّاش
فترك الكاتب كل هذه الأمثلة الرائعة وغيرها الكثير مما تعج به كتب الأدب الشعبي في الدفاع عن الوطن، واختار بيتا لا علاقة له بالموضوع من قريب أو بعيد وجعله مثالا... (لما كان يردده أجدادنا القدامى من رجال ثورة العشرين وثوراتِ الشعوبِ الأخرى ... منذ أن كان وما زال الذائد عن حياض الرافدين)... كما قال في سبب ذكره.
والبيت الذي ساقه المؤلف هو في الشكوى من الحياة، أو في عزة النفس ولم يقلْه الشاعر وهو يدخل معركة المصير. وهذا واضح من عباراته وأمثاله التي ساقها ضمن بيته. ولذلك قلت أن المؤلف لم يوفق باختياره لهذا البيت كما لم يوفق في تعليقه عليه قبله ولا بعده. وحتى من ناحية اللفظ والمعنى فان البيت الذي اختاره لم يسلم من النقد، ففي الشطر الثاني يقول الشاعر: الْدِنْيَا الْيِمْنتي گَصَّت وَشَالاتْ أي قطعت وشَلَّتْ، ولاحظ أن كلمة (شالت) ليس (شَلَّتْ) فلا تسمع أحدا يقول أن يده شَالْت وهو يريد (انْشَلَّتْ) العامية. وعلى افتراض قبولنا بها ، فإنها في آخر الشطر أتت بلا معنى بل شوَّشَت الشطر كلَّه. فكيف يمكن أن تكون يدُ الشاعر (مشلولة) وهي (مقطوعة) في نفس الوقت. ورغم أننا نعلم أن الدنيا لم تقطع ولم تُشَل يده على وجه الحقيقة، إلا أن الجمع بين هاتين الصفتين في الشطر لم يكن صحيحا.
وإذا وجدنا عذرا للشاعر في أنه لم يقل بيته هذا في الفخر والحماسة وإنما حشره المؤلف في الموضوع، فإننا لن نجد له عذرا في الجمع بين اليد المقطوعة والمشلولة في نفس الوقت، إذ لا يمكن ان تجتمع الصفتان معا في شخص على قيد الحياة لان ذلك يخالف طبائع الأشياء عرفا وعلما. وهذا يدل على عدم دقة الشاعر في اختيار ألفاظه. فالشعر قبل كل شيء مضمون وحكمة وصور صحيحة أو مبالغ فيها او مستعارة يُقرُّ المنطق بسلامتها وصحة وجودها في البيت الشعري. فالشاعر الشعبي يقول: الدَّهَر گَصْ يِمْنَاْي شَلْ يِسْرِتِي البَيَنْ بِيْش ألْزَمْ الدّلال بِيْش أمْسَح العَيْن ففرق بين يده اليمنى المقطوعة ويده اليسرى المشلولة.
وكما قلنا أن الشطر الثالث مجار لقول شاعر الفصيح آنف الذكر، وان الربَّاط الذي أنهى به شاعرنا بيته يقول: (ابْظَهَرْهَا الْمَاي وِالخُبْزَه سِوِيّه)، وحرف الباء في كلمة (إبظهرها) يدل على وجود شيء داخل شيء وليس فوقه، كما تقول فلان (بِالْبَيْت) تقصد في البيت وتقول (غَلَط بِالشَطْر الثاني) آو (أحِطَّك ابْگَلبَيْ) ولا تقول (أحِطَّك عَلَى گَلْبِيْ) وكذلك لا نقول العصفور (بالشجرة) ونحن نريد أنه (عَالْشَجَرَة) في حديثنا اليومي بلهجتنا العامية. لكن الشاعر فعل ذلك اضطرارا لكي يستقيم وزن بيته ولو تمكن لقال (فوگ ظَهَرْهَا أو على ظَهرْهَا) كما فعل شاعر الفصيح.
ومثل هذا الشاعر كثيرون يجنحون بأبياتهم عن الطريقة الصحيحة في اللهجة الدارجة دون الإلتفات إلى ذلك، ودون أن ينبههم أحد وربما يتغاضون عنهم باعتبار أن الشاعر حر في اختيار ألفاظه وعباراته.
وبذلك يشجعون غيرهم على السير في نفس المنهاج دون الإلتفات إلى قواعد وأصول اللهجة ومتطلباتها. ولكن يمكن أن يقول الشاعر (إبْظَهَرْهَا) فيعدّي بحرف الباء، وهو يقصد معنى آخر غير المعنى الذي قصده الشاعر السابق: مثل قول الشاعر عطية آل دخيل:
إبْظَهَر شَگرَه الْتِّشِيْلَه رِدِف وِالْحَد وَنَا ابْسِدِّي يِنَام الْجَار وِالْحَد تَرِم مِنِّي يِرِيْد الْطَّرَب وِالْحَد وَنَا الْبَوَّاگ بَعْدَه إيْعَفِت بِيَّه
ففي الشطر الأول يبتدئ الشاعر قولَه (إبْظَهَر شَگرَهْ)، فما هو ذلك الشيء الذي يتحدث عنه الشاعر بظهر الشقراء؟ إنه الشاعر نفسُهُ، وهو يصف نفسَه بكونه فارسا لا يشق له غبار وقد تعوَّد ركوب الفرس الشقراء حتى كأنه (التصق بظهرها) لكثرة ممارسته القتال والغزوات. وقد حذفَ الشاعر الفعلَ والفاعلَ لدلالة السياق عليهما، فكأنه قال: أنا ملتصق بظهر الفرس الشقراء القوية التي يمكنها أن تحمل شخصا آخر عليها (التِّشِيْلَة رِدِف) أي يردفه خلفه، وهو فارس مجرَّب ينام ويأمن جارُه وحدود دياره أو وطنه بحماه (وَنَا ابْسِدِّي يِنَام الْجَار وِالْحَادْ).
والشاعر كما رأينا عدّى الفعل المحذوف بحرف الباء، وهو صحيح لكونه يقصد أنه ثابت أو متمسك بظهرها. وله في الفصيح نظائر، ربما اطّلع عليها الشاعر أو جاراها، من ذلك قول المتنبي وهو يمدح بني عمران:
أَقبَلتُها غُرَرَ الجِيادِ كَأَنَّما أَيدي بَني عِمرانَ في جَبَهاتِها الثابِتينَ فُروسَةً كَجُلودِها بظُهورِها وَالطَعنُ في لُبّاتِها والعارِفينَ بِها كَما عَرَفَتْهُم وَالراكِبينَ جُدودُهُم أُمّاتِها
فقال بظهورِها لأنه يقصد أنهم فرسان ثابتون بظهور جيادهم.
ثم يتطرق الشاعر إلى موضوع آخر حين يذكر كلمة (الخبز) في رباط البيت. فالإبل عندَه تحمل الخبز وهي يقتلها الظمأ. فيبدو أن الشاعر أسوأ حالا من الإبل فهو عطشان وجائع، في حين أن إبل شاعر الفصيح قبل قرون لم تكن تفكر إلا في الماء، ولا هَمَّ لها بغيرِه مما تحمله فوق ظهورها.
| |
|